قد نجد بعض العذر لبعض الأُصوليين والفقهاء في تلك المراحل السابقة نظراً إلى بعض الإشكاليات التي أحاطت بالثقافة الشفوية بعصر التدوين منذ عام 143هـ وملابسات الدس اليهودي، ويمكن أن يقال إنّ النظر إلى القرآن العظيم على أنّه مصدر للأحكام الشرعية أساساً صرف الأنظار عن البحث فيه كمصدر أساسي للمنهجية المعرفية أو أنّ السقف المعرفي – آنذاك – لم يهيِّئ من القدرات المعرفية في تلك المرحلة ما يمكن من استكشاف منهجية القرآن الضابطة لموضوعاته في شكل كلي موحّد، فالمنهجية كناظم معرفي يرد الكثرة إلى الوحدة، والمتشابه إلى المحكم تتطلب وعياً معرفياً على مناهج التعامل مع النصوص انطلاقاً من المعرفية المنهجية ربّما لم تكن الشروط العلمية لظهور هذه المناهج متوافرة في تلك الفترات من تاريخ العقل البشري أو الذي كان متوافراً منها هو مناهج التعامل مع النص كمصدر للحكم فقط، ولذلك اهتمّ علم (أصول الفقه) بهذا الجانب فحسب.
إنّ القرآن الكريم قد اشتمل على جملة من الآيات مبثوثة في كل سورة تفضي بشكل قطعي الدلالة إلى الأخذ بقاعدة رفع الحرج وتأصيل فقه التخفيف والرحمة واعتبار ذلك مقصداً للشارع والشريعة، من ذلك قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس) (الحج/ 78)، وكذلك (يُريد الله بكم اليُسر ولا يُريد بكم العُسر) (البقرة/ 198)، وكذلك (يُريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفاً) (النساء/ 28)، وتتسع معاني هذه الآيات ليستوعبها معنى الرحمة الشاملة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء/ 107).
فهذه الآيات وغيرها كثير تؤكد على أنّ هذه الشريعة هي شرعة التخفيف والرحمة، وهي شرعة جعلها الله – سبحانه – أساس الإبلاغ عن خصائص النبي الأُمِّي (ص): (الذين يتبعون الرسول النبي الأُمِّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيِّبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الأعراف/ 157)، فوجود الإصر والأغلال في هذه الشريعة يمثل نفياً ضمنياً أو صريحاً، لا لخواص الشريعة فقط، بل ولصفات النبي الأُمِّي (ص)، وإذا كانت هناك قاعدة فقهية تقول "أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله"، فإن بجوارها قاعدة أخرى لابدّ من الوعي بها ويمكن أن يكون لفظها "أينما وجد الإصر والأغلال والحرج فثم شرع الله يزيلها ويضعها عن الناس"، أو أي لفظ آخر. الله سبحانه وتعالى في إطار "شرعة الإصر والأغلال" التي فرضها على بني إسرائيل، لم يحرم عليهم الخبائث فقط، ولكن حرّم عليهم ما هو طيِّب في أصله وحلال أيضاً بحكم بغيهم وتعديهم، وهكذا قال سبحانه: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً) (النساء/ 160)، فإذا كان شرع من قبلنا شرعاً لنا، فقد يعني ذلك أن طبيعة التكليف في شريعتنا كطبيعة التكليف في شرائعهم، وذلك محال. وكيف يكون هذا الأمر والله سبحانه قد جعل من خصائص النبوّة الخاتمة أنّ الرسول النبي الأُمِّي (ص) (يحل لهم الطيبات) التي حرمت عليهم سابقاً؟
بل إنّ سيِّدنا عيسى قال لهم: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم)، وفي الإنجيل نصوص منسوبة لعيسى (عليه الصلاة والسلام) يؤكد فيها أنه لن يستطيع أن يخفف لهم أكثر ممّا قال لأنه لا يملك أن يُغيِّر في الشريعة أي التوراة، ولكن سيأتي ذلك الذي يحمل لكم شرعة جديدة، وإنّ من أحكام الشرائع ما يمكن أن يندرج في إطار التصديق القرآني، ويعتبر منسوخاً بهيمنته عليها، وبالأصل القائل بأن شرعتنا شرعة التخفيف والرحمة، وفقهاء العصر المسلمون في حاجة ماسة إلى التبصُّر والتدبُّر في هذه الفوارق المنهجية التي تضفي على أحكام القرآن خصائص التخفيف والرحمة، فإذا تعذّر الإنطلاق من المنهج فلا أقل من محاولة الإنطلاق من آيات الرحمة المبثوثة في كل سور الكتاب لتكون ميزاناً عند النظر في بعض القضايا الجزئية التي قد يؤدِّي التساهل فيها إلى الوقوع في هذه المحاذير.
هام جداً: قوانين المساهمة في المواضيع. انقر هنا للمعاينة
احترم مواضيع الآخرين ليحترم الآخرون مواضيعك لا تحتكر الموضوع لنفسك بإرسال عدة مساهمات متتالية عند طرح موضوع يجب أن تتأكد أن عنوان الموضوع مناسب او لا تحل بحسن الخلق و بأدب الحوار و النقاش لا تنس أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية, فلا تتهجم على عضو بدعوى أنه لا يشاطرك الرأي ان قطعت عهدآ مع عضو فأوفي بوعدك لأنه دين عليك إن حصل خلاف بينك و بين عضو حول مسألة ما فلا تناقشا المشكله على العام بل على الخاص ان احترمت هذه الشروط البسيطة, ضمنت حقوقك و عرفت واجباتك. و هذه افضل طريقة تضمن بها لنفسك ثم لمساهماتك و مواضيعك البقاء و لمنتداك الإزدهار في موقعنا اٍدارة موقع كارمن سليمان